فصل: الجزء الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


الجزء الثاني

سورة المائدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏}‏ فيها خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها عهود الله، التي أخذ بها الإِيمان، على عباده فيما أحله لهم، وحرمه عليهم، وهذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب أن يعملوا بما في التوراة، والإِنجيل من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن جريج‏.‏

والثالث‏:‏ أنها عهود الجاهلية وهي الحلف الذي كان بينهم، وهذا قول قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ عهود الدين كلها، وهذا قول الحسن‏.‏

والخامس‏:‏ أنها العقود التى يتعاقدها الناس بينهم من بيع، أو نكاح، أو يعقدها المرء على نفسه من نذر، أو يمين، وهذا قول ابن زيد‏.‏

‏{‏أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ‏}‏ فيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الأنعام كلها، وهي الإِبل، والبقر، الغنم، وهذا قول قتادة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها أجنة الأنعام التى توجد ميتة فى بطون أمهاتها، إذا نحرت أو ذبحت، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر‏.‏

والثالث‏:‏ أن بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش، ولا يدخل فيها الحافر، لأنه مأخوذ من نعمة الوطء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ‏}‏ أى معالم الله، مأخوذ من الإِشعار وهو الإِعلام‏.‏

وفي شعائر الله خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنها مناسك الحج، وهو قول ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ما حرمه الله فى حال الإحرام، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أنها حرم الله، وهو قول السدي‏.‏

والرابع‏:‏ أنها حدود الله فيما أحل وحرَّم وأباح وحظَّر، وهو قول عطاء‏.‏

والخامس‏:‏ هي دين الله كله، وهو قول الحسن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذّلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 22‏]‏ أى دين الله‏.‏

‏{‏وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ‏}‏ أي لا تستحلوا القتال فيه، وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه رَجَبُ مُضَر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ذو العقدة، وهو قول عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الأشهر الحرم، وهو قول قتادة‏.‏

‏{‏وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ‏}‏ أما الهدي ففيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كل ما أهداه من شيء إلى بيت الله تعالى‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما لم يقلّد من النعم، وقد جعل على نفسه، أن يُهديه ويقلده، وهو قول ابن عباس‏.‏

فأما القلائد ففيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أنها قلائد الهدْي، وهو قول ابن عباس، وكان يرى أنه إذا قلد هديه صار مُحرِماً‏.‏

والثاني‏:‏ أنها قلائد من لحاء الشجر، كان المشركون إذا أرادوا الحج قلدوها فى ذهابهم إلى مكة، وعَوْدهم ليأمنوا، وهذا قول قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن المشركين كانوا يأخذون لحاء الشجر من الحرم إذا أرادوا الخروج منه، فيتقلدونه ليأمنوا، فَنُهوا أن ينزعوا شجر الحرم فيتقلدوه، وهذا قول عطاء‏.‏

‏{‏وَلاَ ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ‏}‏ يعنى ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام، يقال أممت كذا إذا قصدته، وبعضهم يقول يممته، كقول الشاعر‏:‏

إني لذاك إذا ما ساءني بلد *** يممت صدر بعيري غيره بلداً

‏{‏يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الربح فى التجارة، وهو قول ابن عمر‏.‏

والثاني‏:‏ الأجر، وهو قول مجاهد ‏{‏وَرِضْوَاناً‏}‏ يعني رضي الله عنهم بنسكهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ‏}‏ وهذا وإن خرج مخرج الأمر، فهو بعد حظر، فاقتضى إباحة الاصطياد بعد الإِحلال دون الوجوب‏.‏

‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَان قَوْمٍ‏}‏ في يجرمنكم تأويلان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يحملنكم، وهو قول ابن عباس، والكسائي، وأبي العباس المبرد يقال‏:‏ جرمني فلان على بغضك، أى حملني، قال الشاعر‏:‏

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

والثاني‏:‏ معناه ولا يكسبنكم، يقال جرمت على أهلي، أي كسبت لهم، وهذا قول الفراء‏.‏

وفي ‏{‏شَنَئَانُ قَوُمٍ‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه بغض قوم، وهذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ عداوة قوم، وهو قول قتادة‏.‏

وقال السدي‏:‏ نزلت هذه الآية فى الحُطَم بن هند البكري أَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلاَمَ تَدعو‏؟‏ فأخبره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ «يَدْخُلُ اليَوْمَ عَلَيكُم رَجُلٌ مِن رَّبِيعةَ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ» فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أنظرني حتى أشاور، فخرج من عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ، وَخَرجَ بِقَفَا غَادِرٍ» فمر بسرح من سرح المدينة، فاستقاه وانطلق وهو يرتجز ويقول‏:‏

لقد لفها الليل بسواق حطم *** ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم *** باتوا نياماً وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين ممسوح القدم

ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد الهدي، فاستأذن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتلوه، فنزلت هذه الآية حتى بلغ ‏{‏ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ‏}‏ فقال له ناس من أصحابه‏:‏ يا رسول الله خلّ بيننا وبينه، فإنه صاحبنا، فقال‏:‏ «إنه قد قلد»‏.‏

ثم اختلفوا فيما نسخ من هذه الآية بعد إجماعهم على أن منها منسوخاً على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدهما‏:‏ ان جميعها منسوخ، وهذا قول الشعبي، قال‏:‏ لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية‏.‏

والثاني‏:‏ أن الذى نسخ منها ‏{‏وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ ءَآمِّينَ الْبَيتَ الْحَرَامَ‏}‏ وهذا قول ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن الذي نسخ منها ما كانت الجاهلية تتقلده من لحاء الشجر، وهذا قول مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ‏}‏ فيها تأويلان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره‏.‏

والثاني، أنه كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير ذكاة‏.‏

‏{‏وَالدَّمُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الحرام منه ما كان مسفوحاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً‏}‏ الثاني‏:‏ أنه كل دم مسفوح وغير مسفوح، إلا ما خصته اسنة من الكبد والطحال، فعلى القول الأول لا يحرم السمك، وعلى الثاني يحرم‏.‏

‏{‏وَلَحْمُ الْخِنزيرِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن التحريم يختص بلحم الخنزير دون شحمه، وهذا قول داود‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يعم اللحم وما خالطه من شحم وغيره، وهو قول الجمهور، ولا فرق بين الأهلي منه والوحشي‏.‏

‏{‏وَمآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏}‏ يعني ما ذبح ليغر الله من الأصنام والأوثان، أصله من استهلال الصبي إذا صاح حين يسقط من بطن أمه، ومنه أهلال المُحْرِم بالحج والعمرة، قال ابن أحمر‏:‏

يهل بالفرقد ركبانها *** كما يهل الراكب المعتمر

‏{‏وَالْمُنْخَنِقَةُ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها تخنق بحبل الصائد وغيره حتى تموت، وهو قول السدي، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنها التي توثق، فيقتلها خناقها‏.‏

‏{‏وَالْمَوقُوذَةُ‏}‏ هي التي تضرب بالخشب حتى تموت، يقال‏:‏ ‏(‏وقذتها أقذها وقذاً، وأوقذها أيقاذاً، إذا أثخنتها ضرباً‏)‏، ومنه قول الفرزدق‏:‏

شغارة تقذ الفصيل برجلها *** فطَّارة لقوادم الأبكار

‏{‏وَالْمُتَردِيَةُ‏}‏ هي التي تسقط من رأس جبل، أو بئر حتى تموت‏.‏

‏{‏وَالنَّطِيحَةُ‏}‏ هي الشاة التي تنطحها أخرى حتى تموت‏.‏

‏{‏وَمآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعنى من المنخنقة وما بعدها، وهو قول علي رضي الله عنه، وابن عباس، وقتادة، والحسن، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عائد إلى ما أكل السبع خاصة، وهو محكي عن الظاهرية‏.‏ وفى مأكولة السبع التي تحل بالذكاة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تكون لها عين تطرف أو ذنب يتحرك‏.‏

والثاني‏:‏ أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح، وهو قول الشافعي، ومالك‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ‏}‏ معناه أن تطلبوا علم ما قُسِّمَ أو لم يُقَسَّم من رزق أو حاجة بالأزلام، وهي قداح ثلاثة مكتوبة على أحدها‏:‏ أمرني ربي، والآخر‏:‏ نهاني ربي، والثالث‏:‏ غفل لا شيء عليه، فكانوا إذا أرادوا سفراً، أو غزواً، ضربوا بها واستسقسموا، فإن خرج أمرني ربي فعلوه، وإن خرج نهاني ربي تركوه، وإن خرج الأبيض أعادوه، فنهى الله عنه، فَسُمِّي ذلك استقساماً، لأنهم طلبوا به علم ما قُسِمَ لهم‏.‏

وقال أبو العباس المبرد‏:‏ بل هو مشتق من قَسَم اليمين، لأنهم التزموا ما يلتزمونه، باليمين‏.‏

‏{‏ذَالِكُمْ فِسْقٌ‏}‏ أى خروج عن أمر الله وطاعته، وفعل ما تقدم نهيه عنه،

‏{‏الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ترتدوا عنه راجعين إلى دينهم‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقدروا على إبطاله ويقدحوا فى صحته‏.‏

قال مجاهد‏:‏ كان ذلك يوم عرفة حين حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، بعد دخول العرب الإِسلام حتى لم ير النبي صلى الله عليه وسلم مشركاً‏.‏

‏{‏فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ‏}‏ أى لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، واخشونِ، أن تخالفوا أمري‏.‏

‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يوم عرفة فى حجة الوداع ولم يعش ‏[‏الرسول صلى الله عليه وسلم‏]‏ بعد ذلك إلاَّ إحدى وثمانين ليلة، وهذا قول ابن عباس‏:‏ والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه زمان النبي صلى الله عليه وسلم كله إلى أنْ نَزَل ذلك عليه يوم عرفة، وهذا قول الحسن‏.‏

وفي إكمال الدين قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أكملت فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي، ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض من تحليل ولا تحريم، وهذا قول ابن عباس والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ يعني اليوم أكملت لكم حجتكم، أن تحجوا البيت الحرام، ولا يحج معكم مشرك، وهذا قول قتادة، وسعيد ابن جبير‏.‏

‏{‏وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏}‏ بإكمال دينكم‏.‏

‏{‏وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً‏}‏ أي رضيت لكم الاستسلام لأمري ديناً، اي طاعة‏.‏

روى قبيصة قال‏:‏ قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لعظموا اليوم، الذى أُنْزِلت فيه عليهم، فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه، فقال عمر‏:‏ قد علمت اليوم الذى أُنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما- بحمد الله- لنا عيد‏.‏

‏{‏فَمَنِ آضْطُرَّ‏}‏ أي أصابه ضر الجوع‏.‏

‏{‏فِي مَخْمَصَةٍ‏}‏ أي في مجاعة، وهي مَفْعَلة مثل مجهلة ومبخلة ومجبنة ومخزية من خمص البطن، وهو اصطباره من الجوع، قال الأعشى‏:‏

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** وجاراتكم غرقى يبتن خماصا

‏{‏غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثمٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ غير متعمد لإِثم، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ غير مائل إلى إثم، وأصله من جنف القوم إذا مالوا، وكل أعوج عند العرب أجنف‏.‏

وقد روى الأوزاعي عن حسان عن عطية عن أبي واقد الليثي قال‏:‏ قلنا يا رسول الله إنا بأرض يصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة‏؟‏ قال‏:‏ «إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَجْنِفُوا بها، فَشَأْنُكُم بِّهَا

» واختلف فى وقت نزول هذه السورة على ثلاثة أقاويل‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في يوم عرفة، روى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت‏:‏ نزلت سورة المائدة جميعاً وأنا آخذة بزمان ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء وهو واقف بعرفة فكادت من ثقلها أن تدق عضد الناقة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت فى مسيره صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو راكب، فبركت به راحلته من ثقلها‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت يوم الاثنين بالمدينة، وهو قول ابن عباس، وقد حُكِيَ عنه القول الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ يعني بالطيبات الحلال، وإنما سمي الحلال طيباً، وإن لم يكن مستلذاً تشبيهاً بما يستلذ‏.‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ‏}‏ يعني وصيد ما علمتم من الجوارح، وهي الكواسب من سباع البهائم والطير، سميت جوارح لكسب أهلها بها من قولهم‏:‏ فلان جارحة أهله أي كاسبهم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة‏:‏

ذا جبار منضجاً ميسمه *** يذكر الجارح ما كان اجترح

أي ما اكتسب‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مُكَلِّبِينَ‏}‏ ثلاثة أقاويل‏.‏

أحدها‏:‏ يعني من الكلاب دون غيرها، وأنه لا يحل إلا صيد الكلاب وحدها، وهذا قول ابن عمر، والضحاك، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أن التكليب من صفات الجوارح من كلب وغيره، ومعناه مُضْرِين على الصيد كما تَضْرِي الكلاب، وهو قول ابن عباس، وعلي بن الحسين، والحسن، ومجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن معنى التكليب من صفات الجارح‏:‏ التعليم‏.‏

‏{‏تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا علَّمَكُمُ اللَّهُ‏}‏ أى تعلمونهن من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي أدبكم وصفات التعليم التي بيَّن حكمها لكم‏.‏

فأما صفة التعليم، فهو أن يُشلَى إذا أُشلي، ويجيب إذا دعي ويمسك إذا أخذ‏.‏

وهل يكون إمساكه عن الأكل شرطاً فى صحة التعليم أم لا‏؟‏ على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه شرط في كل الجوارح، فإن أكلت لم تؤكل، وهذا قول ابن عباس، وعطاء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ليس بشرط فى كل الجوارح ويؤكل وإن أكلت، وهذا قول ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وسلمان‏.‏

والثالث‏:‏ أنه شرط في جوارح البهائم فلا يؤكل ما أكلت، وليس بشرط في جوارح الطير، فيؤكل وإن أكلت، وهذا قول الشعبي، والنخعي، والسدي‏.‏

واختلف فى سبب نزول هذه الآية على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما روى القعقاع بن حكيم عن سليمان بن أبي رافع عن أبي رافع قال‏:‏ جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه، فقال إذِنَّا لك، فقال أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب، قال أبو رافع‏:‏ فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاؤوا، فقالوا‏:‏ يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ‏}‏ الآية‏.‏

والثاني‏:‏ ما حكي أن زيد الخيل لَمَّا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه من الخير ما قال فسماه زيد الخير، فقال‏:‏ يا رسول الله فينا رجلان، يقال لأحدهما دريح، والآخر يكنى أبا دجانة، لهما أَكْلُب خمسة تصيد الظباء، فما ترى في صيدها‏؟‏

وحكى هشام عن ابن عباس أن أسماء هذه الكلاب الخمسة التي لدريح وأبي دجانة‏:‏ المختلس وغلاب والغنيم وسهلب والمتعاطي، قال‏:‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏ يعني ذبائحهم‏.‏

‏{‏وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ‏}‏ يعني ذبائحنا‏.‏

‏{‏وَالْمُحصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ يعني نكاح المحصنات، وفيهن قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن الحرائر من الفريقين، سواء كن عفيفات أو فاجرات، فعلى هذا، لا يجوز نكاح إمائهن، وهذا قول مجاهد، والشعبي، وبه قال الشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ أنهن العفائف، سواءٌ كن حرائر أم إماءً، فعلى هذا، يجوز نكاح إمائِهن، وهذا قول مجاهد، والشعبي أيضاً، وبه قال أبو حنيفة‏.‏

وفي المحصنات من الذين أوتوا الكتاب قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المعاهدات دون الحربيات، وهذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ عامة أهل الكتاب من معاهدات وحربيات، وهذا قول الفقهاء وجمهور السلف‏.‏

‏{‏إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ يعني صداقهن‏.‏

‏{‏مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحينَ‏}‏ يعني أَعفّاء غير زُناة‏.‏

‏{‏وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ‏}‏ هي ذات الخليل الواحد تقيم معه على السفاح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قَمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُواْ وَجُوهَكُمْ‏}‏ يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم، فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مُضْمَراً‏.‏ وفي وجوب الوضوء شرطاً، وهو قول عبد الله بن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، والفقهاء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه واجب على كل من أراد القيام إلى الصلاة، أن يتوضأ، ولا يجوز أن يجمع بوضوء واحد بين فرضين، وهذا مروي عن علي وعمر‏.‏ والثالث‏:‏ أنه كان واجباً على كل قائمٍ الى الصلاة، ثم نسخ إلاَّ على المحدث،

روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر‏:‏ إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال‏:‏ «عمداً فعلته يا عمر

» وروى عبد الله بن حنظلة بن عامر الغسيل‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه، فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوا قوَّامِينَ لِلَّهِ‏}‏ يعني بالحق فيما يلزم من طاعته‏.‏

‏{‏شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ‏}‏ أي بالعدل‏.‏ وفى هذه الشهادة ثلاثة أقاويل‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الشهادة بحقوق الناس، وهذا قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ الشهادة بما يكون من معاصي العباد، وهذا قول بعض البصريين‏.‏

الثالث‏:‏ الشهادة لأمر الله تعالى بأنه حق‏.‏

وهذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف المفسرون فى سبب نزولها فيه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن النبي خرج إلى يهود بني النضير، يستعين بهم في دية، فهمّوا أن يقتلوه، فنزل ذلك فيه، وهذا قول قتادة، ومجاهد‏.‏

ثم إن الله تعالى ذكرهم نِعَمَهُ عليهم بخلاص نبيهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَومٌ أَن يبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ‏}‏

والقول الثاني‏:‏ أن قريشاً بعثت رجلاً، ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَطْلَعَ الله نَبِيَّهُ على ذلك، فنزلت فيها هاتان الآيتان، وهذا قول الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخْذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ‏}‏ يعني بإخلاص العبادة لله ولزوم طاعته‏.‏

‏{‏وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً‏}‏ أخذ من كل سبط منهم نقيباً، وفى النقيب ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الضمين، وهو قول الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ الأمين، وهو قول الربيع‏.‏

والثالث‏:‏ الشهيد على قومه، وهو قول قتادة‏.‏

وأصله فى اللغة‏:‏ النقيب الواسع، فنقيب القوم هو الذي ينقب أحوالهم‏.‏ وفيما بعث فيه هؤلاء النقباء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم بُعِثُوا إلى الجبارين، ليقفوا على أحوالهم ورجعوا بذلك إِلى موسى، فرجعوا عن قتالهم، لمَّا رأوا من شدة بأسهم، وعظم خلقهم، إلا اثنين منهم، وهذا قول مجاهد، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم بعثوا لقومهم بما أخذ به ميثاقهم منهم، وهذا قول الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَزَّرْتُمُوهُمْ‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني نصرتموهم، وهذا قول الحسن، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ عظمتموهم، وهذا قول أبي عبيدة‏.‏

وأصله المنع، قال الفراء‏:‏ عزرته عزراً إذا رددته عن الظلم، ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقَْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ‏}‏ وتقديره‏:‏ فبنقضهم ميثاقهم لعنَّاهم، و«ما» صلة زايدة‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا قَلُوبَهُمْ قَاسيَةً‏}‏ من القسوة وهي الصلابة‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏قَسِيّةً‏}‏ وفيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها أبلغ من قاسية‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى قاسية‏.‏

‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ‏}‏ يعني بالتغيير والتبديل، وسوء التأويل‏.‏

‏{‏وَنَسُواْ حَظّاً مِّمََّا ذُكِّرُواْ بِهِ‏}‏ يعني نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ‏}‏ فيه تأويلان‏.‏

أحدهما‏:‏ يعني خيانة منهم‏.‏

والثاني‏:‏ يعني فرقة خائنة‏.‏

‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحُ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن حكمها ثابت فى الصفح والعفو إذا رآه‏.‏ والثاني‏:‏ أنه منسوخ، وفى الذي نسخه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَومِ الآخِرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ وهذا قول قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافُنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيهِم عَلَى سَوَآءٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ يعني‏:‏ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ورجم الزانين‏.‏

‏{‏وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ مما سواه‏.‏

‏{‏قَدْ جَآءَكم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ‏}‏ فى النور تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول الزجاج‏.‏ الثاني‏:‏ القرآن وهو قول بعض المتأخرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبِعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ سبيل الله، لأن الله هو السلام، ومعناه دين الله، وهذا قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ طريق السلامة من المخافة، وهو قول الزجاج‏.‏

‏{‏وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من الكفر إلى الإِيمان بلطفه‏.‏

‏{‏وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ طريق الحق وهو دين الله، وهذا قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ طريق الجنة فى الآخرة، وهو قول بعض المتكلمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآءُ اللَّهِ وَأَحِبّآؤُهُ‏}‏ في قولهم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قول جماعة من اليهود حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم عقاب الله، وخوفهم به، فقالوا لا تخوفنا‏:‏ ‏{‏نَحنُ أَبْنآءُ اللَّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ‏}‏، وهذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن اليهود تزعم أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بِكْري من الولد، فقالوا، ‏{‏نَحنُ أَبْنآءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ وهذا قول السدي‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أنهم قالوا ذلك على معنى قرب الولد من والده، وهو القول الثالث‏.‏

وأما النصارى، ففي قولهم لذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لتأويلهم ما في الإِنجيل من قوله‏:‏ اذهب إلى أبي وأبيكم، فقالوا لأجل ذلك ‏{‏نَحنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ الثاني‏:‏ لأجل قولهم في المسيح‏:‏ ابن الله، وهم يرجعون إليه، فجعلوا نفوسهم أبناء الله وأجباءه، فرد الله منطقهم ذلك بقوله‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَلِمَ يُعَذّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ‏}‏ لأن الأب لإِشفاقه لا يعذب ابنه، ولا المحب حبيبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ‏}‏ فيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم السبعون الذين اختارهم موسى‏.‏

‏{‏وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لأنهم مَلَكوا أنفسهم بأن خلصهم من استعباد القبط لهم، وهذا قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ لأن كل واحد ملك نفسه وأهله وماله، وهذا قول السدي‏.‏

والثالث‏:‏ لأنهم كانوا أول من ملك الخدم من بني آدم، وهو قول قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم جُعِلُوا ملوكاً بالمَنِّ والسَّلْوَى والحَجَر، وهذا قول ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ أن كل من ملك داراً وزوجة وخادماً، وفهو ملك من سائر الناس، وهذا قول عبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن، وزيد بن أسلم‏.‏

وقد روى زيد بن أسلم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان له بيت ‏[‏يأوي إليه وزوجة‏]‏ وخادم، فهو ملك

»‏.‏ ‏{‏وءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المن والسلوى والغمام والحجر، وهو قول مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ كثرة الأنبياء فيهم والآيات التي جاءتهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ ادْخُلُواْ الأرْضَ الْمُقدَّسَةَ الَّتِي كتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ فيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أرض بيت المقدس، وهذا قول ابن عباس، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وهذا قول الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ هي الشام، وهذا قول قتادة، ومعنى المقدسة‏:‏ المطهرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ وإن قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم‏}‏ لأنها كانت هبة من الله تعالى لهم ثم حرَّمها عليهم بعد معصيتهم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته‏.‏

والثاني‏:‏ لا ترجعوا عن الارض التي أمرتم بدخولها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ‏}‏ والجبار‏:‏ هو الذي يَجْبُر الناس على ما يريد إكراههم عليه، ومنه جَبْرُ العظم، لأنه كالإكراه على الصلاح، ويقال ‏[‏للأعواد التي‏]‏ تحمله جُبَارة، إذا قامت اليد طولاً، لأنها امتنعت كامتناع الجبار من الناس‏.‏

وقيل بلغ من جبروت هؤلاء القوم، أن واحداً منهم، أخذ الاثني عشر نقيباً، الذين بعثهم موسى، ليخبروه بخربهم، فحملهم مع فاكهة حملها من بستانه، وجاء فنشرهم بين يدي الملك، وقال‏:‏ هؤلاء يريدون أن يقاتلونا، فقال الملك‏:‏ ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهم‏:‏ يخافون الله، وهو قول قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يخافون الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم من قول الحق‏.‏

‏{‏أَنْعََمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالتوفيق للطاعة‏.‏

والثاني‏:‏ بالإِسلام، وهو قول الحسن‏.‏

وفي هذين الرجلين قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما من النقباء يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وهذا قول ابن عابس، ومجاهد، وقتادة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما رجلان، كانا في مدينة الجبارين أنعم الله عليهما بالإِسلام، وهذا مروي عن ابن عباس‏.‏

‏{‏ادْخُلُواْ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ إنما قالوه لعلمهم بأن الله كتبها لهم‏.‏

والثاني‏:‏ لعلمهم بأن الله ينصرهم على أعادئه، ولم يمنعهم خوفهم من القول الحق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الحَقَّ إِذَا رَآهُ أَوْ عَلِمَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُبْعِدُ مِنْ رِزْقٍ وَلاَ يُدْنِي مِنْ أَجَلٍ

»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏27‏)‏ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏30‏)‏ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ‏}‏ فيهما قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما من بني إسرائيل، وهذا قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما ابنا آدم لصلبه، وهما هابيل وقابيل، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة‏.‏

‏{‏إِذْ قَرَّبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ‏}‏ والقربان‏:‏ هو البر الذي يقصد من رحمة الله، وهو فعلان من القرب‏.‏

واختلف فى السبب الذي قربا لأجله قرباناً على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما فعلاه لغير سبب‏.‏

والثاني‏:‏ وهو أشهر القولين أن ذلك لسبب، وهو أن حواء كانت تضع في كل عام غلاماً وجارية، فكان الغلام يتزوج من أحد البطنين بالجارية من البطن الآخر، وكان لكل واحد من ابني آدم هابيل وقابيل توأمة، فأراد هابيل أن يتزوج بتوأمة قابيل فمنعه، وقال أنا أحق بها منك‏.‏

واختلف فى سبب منعه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن قابيل قال لهابيل أنا أحق بتوأمتي منك، لأننا من ولادة الجنة وأنت من ولادة الأرض‏.‏

الثاني‏:‏ أنه منعه منها لأن توأمته كانت أحسن من هابيل ومن توأمته، فقربا قرباناً وكان قابيل حراثاً، وهابيل راعياً، فقرب هابيل سخلة سمينة من خيار ماله، وقرب قابيل حزمة سنبل من شر ماله، فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وكان ذلك علامة القبول ولم يكن فيهم مسكين يتقرب بالصدقة عليه وإنما كانت قُرَبُهُم هكذا‏.‏

قال أبو جعفر الطبري‏:‏ وكانت سخلة هابيل المقبولة ترعى فى الجنة حتى فَدَى الله تعالى بها إٍحاق بن إبراهيم الذبيح‏.‏

واختلف في سبب قبول قربان هابيل على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنه كان أتقى لله من قابيل لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏}‏، والتقوى ها هنا الصلاة، على ما ذكره المفسرون‏.‏

الثاني‏:‏ لأن هابيل تقرب بخيار ماله فَتُقُبِّل منه، وقابيل تقرب بشر ماله، فلم يُتَقَبَّل منه، وهذا قول بعد الله بن عمر، وأكثر المفسرون‏.‏

واختلف في قربانهما هل كان بأمر آدم، أو من قبل أنفسهما على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما قربا بأمر آدم حين اختصما إليه‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما قربا من قِبَل أنفسهما‏.‏

وكان آدم قد توجه إلى مكة، ليراها ويزور البيت بها عن أمر به، وكان قد عرض الأمانة في حفظ أهله على السموات فأبت، فعرضها على الأرض فأبت، فعرضها على الجبال فأبت، فعرضها على قابيل فقبلها، ثم توجه وعاد فوجد قابيل قد قتل هابيل وشربت الأرض دمه، فبكى ولعن الأرض لشربها دمه، فأنبتت الشوك، ولم تشرب بعده دماً‏.‏

روى غياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمداني عن علي قال‏:‏ لما قتل قابيل بن آدم هابيل أخاه بكاه آدم عليه السلام فقال‏:‏

تَغَيَّرَتِ البِلادُ ومَنْ عليها *** فوَجْهُ الأرْضِ مُغْبَرٌ قبيحٌ

تَغَيَّرَ كلُّ ذِي لَوْنٍ *** وقَلَّ بَشَاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحْ

قال فأجيب آدم‏:‏

أبا هابيل قد قُتِلا جَمِيعاً *** وصارَ الحَيُّ كالمَيِّتِ الذَّبِيحْ

وجَاءَ بِشَرِّ ما قَدْ كانَ منه *** على خَوْفٍ فَجَاءَ بها تَصِيحْ

واختلف في قابيل هل كان عند قتل أخيه كافراً أو فاسقاً‏؟‏ فقال قوم كان كافراً، وقال آخرون بل كان رجل سوء فاسقاً‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ لم يزل بنو آدم فى نكاح الأخوات حتى مضي أربعة آباء، فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ‏}‏ معناه لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك بمثله، وفي امتناعه من دفعه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ منعه منه التحرج مع قدرته عليه وجوازه له، وهذا قول ابن عباس، وعبد الله بن عمر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لم يكن له الامتناع ممن أراد إذ ذاك، وهذا قول مجاهد والحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ‏}‏ معناه ترجع، وفيه تأويلان‏:‏ إحدهما‏:‏ أن تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي عليك من معاصيك وذنوبك، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ يعني أن تبوء بإثمي فى خطاياي، وإثمك بقتلك لي، فتبوء بهما جميعاً، وهذا قول مجاهد‏.‏

وروى الأعمش، عند عبد الله بن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلْماً إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ

»‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ‏}‏ معنى طوعت أي فعلت من الطاعة، وفيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعنى شجعت، وهو قول مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ يعني زينت، وهو قول قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ يعني فساعدته‏.‏

وكان هابيل أول من قُتِلَ في الأرض، وقيل إن قابيل لم يدر كيف يقتله حتى ظهر له إبليس فعلمه، وقيل إنه قتله غيلة، بأن ألقى عليه وهو نائم صخرة، شدخه بها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني عورة أخيه‏.‏

والثاني‏:‏ جيفة أخيه لأنه تركه حتى أنتن، فقيل لجيفته سوأة‏.‏

وفي الغراب المبعوث قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان ملكاً على صورة الغراب، فبحث الأرض على سوأة أخيه حتى عرف كيف يدفنه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان غراباً بحث الأرض على غراب آخر‏.‏

‏{‏قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخَي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ‏}‏ قيل إنه ندم علىغير الوجه الذي تصح منه التوبة، فلذلك لم تقبل منه، ولو ندم على الوجه الصحيح لقبلت توبته‏.‏

وروى معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ «إِنَّ ابْنَي آدَمَ ضَرَبَ مَثَلاً لِهَذِهِ الأَمَّةِ، فَخُذُوا مِنْ خَيرِهِمَا، وَدَعُوا شَرَّهُمَا

»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‏(‏32‏)‏ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلِكَ‏}‏ يعني من أجل أن ابن آدم قتل أخاه ظلماً‏.‏

‏{‏كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ‏}‏ يعني من قتل نفساً ظلماً بغير نفس قتلت، فيقتل قصاصاً، أو فساد فى الأرض استحقت به القتل، الفساد فى الأرض يكون بالحرب لله ولرسوله وإخافة السبيل‏.‏

‏{‏فَكَأَنَّمَ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني من قتل نبياً أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن شد على يد نبى أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعاً، وهذا قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ معناه فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول، ومن أحياها فاستنفذها من هلكة، فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنفذ، وهذا قول ابن مسعود‏.‏

والثالث‏:‏ معناه أن قاتل النفس المحرمة يجب عليه من القود والقصاص مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعاً، ومن أحياها بالعفو عن القاتل، أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعاً، وهذا قول ابن زيد وأبيه‏.‏ والرابع‏:‏ معناه أن قاتل النفس المحرمة يَصْلَى النار كما يَصْلاها لو قتل الناس جيمعاً، ومن أحياها، يعني سلم من قتلها، ‏[‏فكأنما‏]‏ سلم من قتل الناس جميعاً، وهذا قول مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أن على جميع الناس ‏(‏جناية القتل‏)‏ كما لو قتلهم جميعاً، ومن أحياها بإنجائها من غرق أو حرق أو هلكة، فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً‏.‏ والسادس‏:‏ أن الله تعالى عظم أجرها ووزرها فإحياؤها ‏[‏يكون‏]‏ بمالك أو عفوك، وهذا قول الحسن، وقتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً‏}‏ اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت فى قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فعرف الله نبيه الحكم فيهم، وهذا قول ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت فى العُرَنِيِّينَ ارتدوا عن الإِسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبله، وهذا قول أنس بن مالك، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت إخباراً من الله تعالى بحكم من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً‏.‏

واختلف في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه الآية على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الزنى والقتل والسرقة، وهذا قول مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية فى المِصْر وغيره، وهذا قول الشافعي، ومالك، والأوزاعي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه المجاهر بقطع الطريق دون المكابر فى المِصْر، وهذا قول أبي حنيفة، وعطاء الخراساني‏.‏

‏{‏أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْض‏}‏ جعل الله هذا حكم المحارب، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها على التخيير وأن الإِمام فيهم بالخيار بين أن يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفي، وهذا قول سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مرتبة تختلف على قدر اختلاف الأفعال‏:‏ أن يقتلوا إذا قتلوا، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي‏.‏

وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك العرنيين وهم من بجيلة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القصاص فيمن حارب، فقال‏:‏ من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإِخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل افرج فاصلبه‏.‏

أما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يُنفَوا مِنَ الأَرْضِ‏}‏ فقد اختلف أهل التأويل فيه على أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه نفيهم وإبعادهم من بلاد الإِسلام إلى بلاد الشرك، وهو قول أنس‏:‏ والحسن، وقتادة، السدي، والزهري، والضحاك، والربيع‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إخراجهم من مدينة إلى أخرى، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الحبس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه‏.‏

والرابع‏:‏ هو أن يطلبوا لتقام الحدود عليهم فيُبْعَدُوا، وهذا قول ابن عباس، والشافعي، والليث بن سعد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ‏}‏ فيه ستة أقاويل، أحدها‏:‏ إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم فى الأرض فساداً بإسلامهم، فأما المسلمون فلا يتسقط التوبة عنهم حداً وجب عليهم، وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ إلا الذين تابوا من المسلمين المحاربين بأمان من الإِمام قبل القدرة عليهم، فأما التائب بغير أمان فلا، وهذا قول عليّ عليه السلام، والشعبي، وروى الشعبي أن خارجة بن زيد خرج محارباً فأخاف السبيل، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، وجاء تائباً من قبل القدرة عليه، فقبل عليّ توبته وجعل له أماناً منشوراً على ما كان أصاب من دم ومال‏.‏

والثالث‏:‏ إلا الذين تابوا بعد أن لحقوا بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه، وهذا قول عروة بن الزبير‏.‏

والرابع‏:‏ إن كان في دار الإٍسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها وتاب قبل القدرة عليه قبلت توبته، وإن لم يكن له فئة يمتنع بها ‏[‏وتاب‏]‏ لم ‏[‏تسقط‏]‏ عنه توبته شيئاً من عقوبته، وهذا قول ابن عمر، وربيعة، والحكم بن عيينة‏.‏

والخامس‏:‏ أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه حدود الله تعالى دون حقوق الآدميين، وهذا قول الشافعي‏.‏

والسادس‏:‏ أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه سائر الحقوق والحدود إلا الدماء، وهذا مذهب مالك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 40‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏36‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏37‏)‏ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏38‏)‏ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏39‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا‏}‏ وهي في قراءة عبد الله ابن مسعود‏:‏ والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما‏.‏

إنما بدأ الله تعالى في السرقة بالسارق قبل السارقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني، لأن حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب، ثم جعل حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به، لثلاثة معانٍ‏:‏

أحدها‏:‏ أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر، وقطع الذكر فى الزنى باطن،

والثالث‏:‏ أن فى قطع الذكر إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله‏.‏

وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد ابن المغيرة، فأمر الله تعالى بقطعه فى الإِسلام، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإِسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم، وقال‏:‏ «لَو كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ

»‏.‏ وقطع عمر ابن سمرة أخا عبد الرحمن بن سمرة‏.‏

والقطع في السرقة حق الله تعالى لا يجوز العفو عنه بعد علم الإِمام به، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سارق رداء صفوان حين أمر بقطعه، فقال صفوان‏:‏ قد عفوت عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ‏؟‏لاَ عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوتُ

»‏.‏ وروي أن معاوية بن أبي سفيان أُتِيَ بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد منهم فقدم ليقطع فقال‏:‏

يميني أمير المؤمنين أعيذها *** بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها

يدي كانت الحسناء لو تم سبرها *** ولا تعدمُ الحسناءُ عابا يعيبها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة *** إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال معاوية‏:‏ كيف أصنع وقد قطعت أصحابك، فقالت أم السارق‏:‏ يا أمير المؤمنين اجعلها من ذنوبك التي تتوب منها، فَخَلَّى سبيله، فكان أول حد ترك في الإٍسلام‏.‏

ولوجوب القطع مع ارتفاع الشبهة شرطان هما‏:‏ الحرز والقدر، وقد اختلف الفقهاء فى قدر ما تقطع فيه اليد خلافاً، كُتُبُ الفقه أولى‏.‏

واختلف أهل التأويل حينئذ لأجل استثناء القطع وشروطه عمن سرق من غير حرز أو سرق من القدر الذي تقطع فيه اليد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا‏}‏ هل هو عام خُصّ‏؟‏ أو مجمل فُسِّر على وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العموم الذي خُصّ‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المجمل الذي فُسِّر‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَآءً بِمَا كَسَبا‏}‏ فاختلفوا هل يجب مع القطع غُرْم المسروق إذا استهلك على مذهبين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا غرم، وهذا قول أبي حنيفة‏.‏

والثاني‏:‏ يجب فيه الغرم، وهو مذهب الشافعي‏.‏

وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت فى طعمة بن أبيرق سارق الدرع‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ‏}‏ في التوبة ها هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها كالتوبة من سائر المعاصي والندم على ما مضى والعزم على ترك المعاودة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الحد، وهو قول مجاهد‏.‏

وقد روى عبد الله بن عمرو قال‏:‏ سرقت امرأة حلياً فجاء الذين سرقتهم فقالوا‏:‏ يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اقْطَعُوا يَدَهَا الْيُمْنَى» فقالت المرأة‏:‏ هل لي من توبة‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ» فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ويَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يغفر لمن تاب من كفره، ويعذب من مات على كفره، وهذا قول الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ يعذب من يشاء فى الدنيا على معاصيهم بالقتل والخسف والمسخ والآلام وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم فى الدنيا بالتوبة واستنقاذهم بها من الهلكة وخلاصهم من العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِن الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ‏}‏ يعني به المنافقين المظهرين للإِيمان المبطنين للكفر‏.‏

‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ‏}‏ يعني اليهود‏.‏

‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏ ليكذبوا عليك عندهم إذا أتوا من بعدهم، وهذا قول الحسن، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ‏}‏ أى قائلون للكذب عليك‏.‏ و‏{‏سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏ يعني فى قصة الزاني المحصن من اليهود الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكروه، وهذا قول ابن عباس‏.‏

‏{‏يُحرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضَعِهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم غيروه بالكذب عليه، وهذا قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ هو تغيير حكم الله تعالى في جَلْد الزاني بدلاً من رجمه، وقيل في إسقاط القود عند استحقاقه‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يريد بذلك حين زنى رجل منهم بامرأة فأنفذوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم وقالوا‏:‏ إن حكم عليكم بالجلد فاقبلوه وإن حكم عليكم بالرجم فلا تقبلوه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدارس توارتهم وفيها أحبارهم يتلون التوراة، فأتى عبد الله بن صوريا، وكان أعور، وهو من أعلمهم فقال له أسألك بالذي أنزل التوراة بطور سيناء على موسى بن عمران هل فى التوراة الرجم‏؟‏ فأمسك، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا، قال عبد الله‏:‏ وكنت فيمن رجمه وأنه ليقيها الأحجار بنفسه حتى ماتت، ثم إن ابن صوريا أنكر وفيه أنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول ابن عباس، وجابر، وسعيد بن المسيب، والسدي، وابن زيد‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن ذلك في قتيل منهم، قال الكلبي‏:‏ قتلت بنو النضير رجلاً من بني قريظة وكانوا يمتنعون بالاستطالة عليهم من القود بالدية، وإذا قتلت بنو قريظة منهم رجلاً لم يقنعوا إلا بالقود دون الدية، قالوا‏:‏ إن أفتاكم بالدية فاقبلوه وإن أفتاكم بالقود فردوه، وهذا قول قتادة‏.‏

‏{‏وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ‏}‏ فيه ثلاث تأويلات‏.‏

أحدها‏:‏ عذابه، وهذا قول الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ إضلاله، وهو قول السدي‏.‏

والثالث‏:‏ فضيحته، وهو قول الزجاج‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لم يطهرها من الضيق والحرج عقوبة لهم‏.‏

والثاني‏:‏ لم يطهرها من الكفر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏.‏

أحدهما‏:‏ أن السحت الرشوة، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الرشوة فى الحكم، وهو قول علي‏.‏

والثالث‏:‏ هو الاستعجال فى القضية، وهو قول أبي هريرة‏.‏

والرابع‏:‏ ما فيه الغارّ من الأثمان المحرمة‏:‏ كثمن الكلب، والخنزير، والخمر وعسب افحل، وحلوان الكاهن‏.‏

وأصل السحت الاستئصال، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ‏}‏ أي يستأصلكم، وقال الفرزدق‏:‏

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحتاً أو مجلف

فسمي سحتاً لأنه يسحت الدين والمروءة‏.‏

‏{‏فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَْعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ فيمن أريد بذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ اليهوديان اللذان زنيا خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما بالرجم أو يدع، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والزهري‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في نفسين من بني قريظة وبني النضير قتل أحدهما صاحبه فخّير رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احتكامهما إليه بين أن يحكم بالقود أو يدع، وهذا قول قتادة‏.‏

واختلفوا في التخيير في الحكم بينهم، هل هو ثابت أو منسوخ‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ثابت وأن كل حاكم من حكام المسلمين مخير فى الحكم بين أهل الذمة بين أن يحكم أو يدع، وهذا قول الشعبي، وقتادة، وعطاء، وإبراهيم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن ذلك منسوخ، وأن الحكم بينهم واجب على من تحاكموا إليه من حكام المسلمين، وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وعكرمة، وقد نسخه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَيفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ الْتَّورَاةُ فِيهَا حَكْمُ اللَّهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ حكم الله بالرجم‏.‏

والثاني‏:‏ حكم الله بالقود‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بعد حكم الله في التوراة‏.‏

والثاني‏:‏ بعد تحكيمك‏.‏

‏{‏وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي فى تحكيمك أنه من عند الله مع جحودهم نبوتك‏.‏

والثاني‏:‏ يعني فى توليهم عن حكم الله غير راضين به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ‏}‏ يعني بالهدى ادليل‏.‏ وبالنور البيان‏.‏

‏{‏يَحْكُمْ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم جماعة أنبياء منهم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده وإن ذكر بلفظ الجمع‏.‏

وفي الذي يحكم به من التوراة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد رجم الزاني المحصن، والقود من القاتل العامد‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه الحكم بجميع ما فيها من غير تخصيص ما لم يرد به نسخ‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ هَادُوا‏}‏ يعني على الذين هادوا، وهم اليهود، وفي جواز الحكم بها على غير وجهان‏:‏ على اختلافهم فى التزامنا شرائع من قبلنا إذا لم يرد به نص ينسخ‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالرَّبَانُّيِونَ والأَحْبَارُ‏}‏ واحد الأحبار حَبْر بالفتح، قال الفراء، أكثر ما سمعت حِبْر بالكسر، وهو العالم، سُمِّي بذلك اشتقاقاً من التحبير، وهو التحسين لأن العالم يحسن الحسن ويقبح القبيح، ويحتمل أن يكون ذلك لأن العلم فى نفسه حسن‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه يحكمون بما استحفظوا من كتاب الله‏.‏

والثاني‏:‏ معناه والعلماء استحفظوا من كتاب الله‏.‏

وفي ‏{‏اسْتُحْفِظُواْ‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ استودعوا، وهو قول الأخفش‏.‏

والثاني‏:‏ العلم بما حفظوا، وهو قول الكلبي‏.‏

‏{‏وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ‏}‏ يعني على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة‏.‏

‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فلا تخشوهم فى كتمان ما أنزلت، وهذا قول السدي‏.‏

والثاني‏:‏ في الحكم بما أنزلت‏.‏

‏{‏وَلاَ تَشْتَرُوا بِأَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه لا تأخذوا على كتمانها أجراً‏.‏

والثاني‏:‏ معناه لا تأخذوا على تعليمها أجراً‏.‏

‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُونَ‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ وفي اختلاف هذه الآي الثلاث أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها واردة في اليهود دون المسلمين، وهذا قول ابن مسعود، وحذيفة، والبراء، وعكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت في أهل الكتاب، وحكمها عام في جميع الناس، وهذا قول الحسن، وإبراهيم‏.‏

والثالث‏:‏ أنه أراد بالكافرين أهل الإِسلام، وبالظالمين اليهود، وبالفاسقين النصارى، وهذا قول الشعبي‏.‏

والرابع‏:‏ أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، فهو كافر، ومن لم يحكم مقراً به فهو ظالم فاسق، وهذا قول ابن عباس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏ وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في اليهود من بني قريظة والنضير، وقد ذكرنا قصتهما‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كفارة للجروح، وهو قول عبد الله بن عمر، وإبراهيم، والحسن، والشعبي، روى الشعبي عن ابن الصامت قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدَّقَ بِهَا كَفَّرَ عَنْهُ ذُنُوبَهُ بِمِثْلِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ

»‏.‏ والثاني‏:‏ أنه كفارة للجارح، لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وهذا محمول على من عفى عنه بعد توبته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ‏}‏ يعني القرآن‏.‏

‏{‏مُصَدِّقَاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ يعني لما قبله من الكتاب وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مصدقاً بها، وهو قول مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ موافقاً لها، وهو قول الكلبي‏.‏

‏{‏وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أميناً، وهو قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يعني شاهداً عليه، وهو قول قتادة، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ حفيظاً عليه‏.‏

‏{‏فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمآ أَنزَلَ اللَّهُ‏}‏ هذا يدل على وجوب الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا، وألا نحكم بينهم بتوراتهم ولا بإنجيلهم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَتَّبعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أمم جميع الأنبياء‏.‏

‏{‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً‏}‏ أما الشرعة فهي الشريعة وهي الطريقة الظاهرة، وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ومن قيل لشريعة الماء شريعة لأنها أظهر طرقه إليه، ومنه قولهم‏:‏ أُشْرِعَتِ الأسنة إذا ظهرت‏.‏

وأما المنهاج فهو الطريق الواضح، يقال طريق نهج ومنهج، قال الزاجر‏:‏

مَن يَكُ ذَا شَكٍّ فهذَا فَلْجُ *** مَاءٌ رُوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ

فيكون معنى قوله شرعة ومنهاجاً أي سبيلاً وسنة، وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدةً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لجعلكم على ملة واحدة‏.‏

الثاني‏:‏ لجمعكم على الحق، وهذا قول الحسن‏.‏